في تاريخ الأمم أيام خالدة لا تنسى، وتظل الأمة في حاجة إلى تذكرها واستلهام دروسها وعبرها وهي ترنو لمستقبلها ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور﴾، ومن أهم الأيام في تاريخنا الحديث يوم العاشر من رمضان 1393هـ السادس من أكتوبر 1973 م حين حققت الأمة أول نصر حقيقي في تاريخها الحديث على الصهاينة.
بعد هزائم متتالية تجرعت الأمة مرارتها، بعد أن أغرقها حكامها في بحر الاستبداد الذي مسخ شخصيتها، وجرف قيمها وأخلاقها ومروءتها وضيع رجولتها، وحرص على إبعادها عن دينها مصدر قوتها وعزتها.
وشغلها بالتمجيد للمستبد الظالم عن التدريب الجيد والاستعداد اللازم لمواجهة عدوها، وكانت الهزيمة الكبرى في الخامس من يونية سنة 1967م التي دفعت فيها الأمة ثمنا باهظا بعشرات الآلاف من خيرة شبابها، فضلا عن تدمير معظم عتادها وتسليم مساحات شاسعة من أرضها لعدوها الذي استأسد وأعلن أنه لا يقهر.
لكل هذا وغيره كانت حرب العاشر من رمضان حدثا فاصلا في تاريخ الأمة التي عادت تعلن عن نفسها بشكل جديد، وتؤكد أنها قادرة بفضل الله تعالى على تجاوز جراحها، وتحقيق آمالها، متى صحت الإرادة وصدقت النية واتضح الهدف واجتمعت الأمة حول ثوابتها لا حول أشخاص حكامها.
أسباب النصر في حرب أكتوبر:
فضلا عن التدريب الصحيح والإعداد الجيد فقد كان من أهم أسباب النصر: أن عادت الأمة إلى الاستمساك بدينها والاعتصام به، فهمًا لأصوله وتعلمًا لشرائعه، وتمثلاً لأخلاقه، وتحليًا بآدابه، والتزامًا بأسسه وقواعده، وتوحدًا على عقائده ومبادئه، وقد وعد الله ووعده حق بنصر من ينصرونه، ويقيمون دينه، فقال ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
فانطلقت كتائب الدعاة بين الجنود تصحح العقيدة التي تحكم توجهات المقاتلين وتردهم إلى جادة الحق، وتقيم المساجد محل (البارات) في الوحدات المختلفة، وأدرك الجندي المجاهد أن النصر لا يكون بقوة السلاح فقط، وإنما يكون بقوة الإيمان، وبالصدق مع الله تعالى، وبوضوح الهدف الذي يقاتل من أجله الإنسان، ويكون بالتوكل على الله ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ وأنه إن مات مات شهيداً، وإن عاش عاش حميداً.
ومن ثم كانت صيحة المجاهدين في الميدان (الله أكبر) وكان يقين جنودنا أن الله أكبر من كل تحصينات الصهاينة ومن وراءهم:
إذا جـ لجلت "الله أكبر" في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضـ اعت مساعيه وأتعابه سُدى
وكيف يقوم الظلم في وجه شرعةٍ تسامت على كل الشرائع مقصدا
سماوية الأغراض ساوت بنهجها جميع بني الدنيا مسوداً وسيدا
فما فضلت قوماً لتحقر غيرهم ولا جحدت حقاً ولا أنكرت يدا
تريد الهدى للناس والناس دأبهم يعادون من يدعو إلى الخير والهدى
كانت قلوب المجاهدين في المعركة تردد التكبير مع الألسن فكان النصر هو المكافأة الإلهية، فهل نعي هذا الدرس ونحن نؤسس لعصر جديد من الانتصارات بإذن الله؟
أما السبب الثاني من أسباب النصر: فكان إشعال روح التحدي في قلوب الأمة وتقوية الأمل في نفوس المجاهدين، وكانت معارك الاستنزاف ميدانا لبعث هذه الروح وتوكيدا على أن هزيمة العدو ممكنة رغم كل الدعايات الجبارة عن جيشه الذي لا يقهر وتحصيناته التي لا يمكن اختراقها وحلفائه الذين لا يمكن أن يسمحوا بهزيمته، فكانت الضربات الموجعة التي وجهها المجاهدون في عمليات الاستنزاف إعلانا بأن نصر هذه الأمة قد انعقد غمامه، وقد أقبلت أيامه، وأن الشدائد التي تمر بها الأمة هي أمارات ميلاد جديد بإذن الله، وأن مع العسر يسرين، ولا تزال هذه الطريقة من أنجع الطرق في مواجهة عدو متترس بترسانة هائلة من الأسلحة الحديثة، وبهذه الطريقة انهزم العدو في جنوب لبنان وفي غزة، واضطر للانسحاب بجنوده من جانب واحد من كلتا الجبهتين. وهذا درس ينبغي ألا يغيب عن صانعي الاستراتيجيات في الأمة.
السب الثالث من أسباب النصر: متانة الجبهة الداخلية وقوة الوحدة الوطنية، إذ أدرك المصريون جميعا مسلمين ومسيحيين أنه لا يمكن أن نواجه التحديات الصهيونية إلا بصف وطني متماسك، ولحمة قوية متينة على سائر المستويات، ومجتمع مترابط، وصف متحد، وقد كانت صيحة (الله أكبر) نشيد الجندي المصري المسلم والمسيحي على السواء.
ولم يسمح العقلاء في الأمة للفتنة الطائفية أن تطل برأسها أو حتى أن تلعب بذيلها، فصدر الجميع عن روح وطنية رائعة، وحمل الجميع أرواحهم على أكفهم فداء لوطنهم ولعزتهم، وفي ذلك أكبر دليل على سلامة النسيج الاجتماعي الوطني المصري، وعلى أن ما حصل بعد ذلك من شحن أو فرز طائفي هو أمر مصنوع ودخيل على الشخصية المصرية، ومن واجبنا جميعا أن نقف بالمرصاد لمن يسعى لإشعال فتيل الفتنة وإحداث الوقيعة بين أبناء الوطن الواحد.
السبب الرابع من أسباب النصر: العودة إلى وحدة الأمة؛ حيث أدركت كل دولة أنها لا بد أن تكون قوةً لأختها، وكان شعار الجميع قوله تعالى ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ بعد أن أدرك الجميع أن التفرق سر الضعف وأن التنازع باب الفشل ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾.
وأيقنوا أن العدو حريص على العبث بنا وبمقدساتنا، ومجتهد في شق صفوفنا، وجاد في العمل على الانفراد بكل منا على حدة، في الوقت الذي تجتمع كل قوى الاستعمار العالمي على معاونة الصهاينة ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾، ومن هنا كان الاستخدام العربي الناجح لسلاح قطع البترول عن الدول المساندة للكيان الصهيوني.
وكان رائد ذلك الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، فضلا عن الكتائب العربية التي دخلت المعركة إلى جوار الجيش المصري والسوري، وإن كانت في معظمها رمزية، لكنها كانت تعبيرا عن حالة الوحدة التي لا غنى للأمة عنها إذا أرادت أن تكسب معركتها مع عدوها.
ثورات الربيع العربي مقدمة النصر الكبير بإذن الله:
وأخيرا فقد بلغ الوعي العربي الإسلامي مرحلة فارقة نحو الصعود بإذن الله، فإن امتلاك الشعوب قرارها وانتصارها على المستبدين بأمرها هو بداية الطريق نحو النصر في كافة الميادين بإذن الله تعالى، لأن الأحرار هم الذين يصنعون الأمجاد لأمتهم، وإن قيادة التيار الإسلامي الوسطي لجديرة بأن تأخذ الأمة إلى آفاق جديدة من النهوض، تستلهم روح النصر الذي تحقق في أكتوبر، وتتعالى على روح الانهزام التى غرسها الاستبداد والمستبدون، وتتجاوز حالة الإحباط التي يروج لها المرجفون.
وإني أقول لأولئك المنبهرين بقوة عدوهم، والمروجين لفشل أمتهم: إن الهزيمة النفسية هي أقسى وأشد ألوان الهزيمة في المعارك، وإن ألف معركة يخسرها الجيش في الميدان أهون من معركة واحدة يخسرها في نفوس الجنود، وإن الأمة الآن بفضل الله قد تجاوزت هذا الإحباط، وماضية في طريقها نحو النصر والنهوض، فأفسحوا لها الطريق من فضلكم، وكفوا عن ترويج اليأس، فالأمة على موعد مع نصر أكيد بإذن الله
لا تقولوا: زرع الزارعُ والباغي حَصَدْ
ذهب الأقصى وضاعت قدسُنا منّا وحيفانا ويافا وصَفَدْ
لا تقولوا: حارس الثَّغْر رَقَدْ
أنا لا أُنكر أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ
والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَر
أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمنا المسكون بالوهم انتشر
غيرَ أنَّي لم أزلْ أحلف بالله الأحَدْ
أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ وعدوَّ اللهِ لن يلقى من الله سَنَدْ
لن ينال المعتدي ما يبتغي في القدسِ ما دام لنا فيها وَلَدْ
والله أكبر ولله الحمد.
الكاتب: أ. د/ عبد الرحمن البر
المصدر: موقع على بصيرة